رحلة في كتاب: الرزق مقسوم ولكن السعي واجب

بالرغم من صغر حجم الكتاب وقلة صفحاته التي لا تتعدى إثنان وثلاثون صفحة وهو من إصدارات دار المنارة، إلا أن فيه من المعاني الكبيرة والمهمة الشيء الكثير، وهو من تأليف الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.

كتاب مهم ونافع يحتاجه كل الناس وليته يصل إلى جميع الطلبة والخريجين الجدد والباحثين عن عمل والموظفين وأصحاب المشاريع كافة.

فالرزق باب قد أساء فهمه الكثيرون فمنهم من أقض القلق والهم مضجعه، ومنهم من أفسد الحسد والتسخط على ما عند الآخرين قلبه، ومنهم من اتجه للكسب الحرام والمشبوه بسبب الجهل في فهم ذلك.

الرزق مقسوم، فما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، ولكن اذكر دائما أن الذي كتب لك هذا الرزق أوجب عليك العمل، وأن التوكل على الله لا یکون بترك الأسباب، والأعرابي الذي ترك ناقته على باب مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام طليقة ودخل عليه، فافتقدها، لقنه الرسول درسا من دروسه النبوية التي تظل إلى يوم القيامة نبراساً لكل من أراد أن يهتدي بها في ظلمة الحياة فقال له: «اعقلها وتوكل»

وقد تكلم الشيخ حفظه الله عن مفهوم الرزق، وتقسيمه بين الناس، والواجب على كل منا عمله، والرضا بما حصلنا عليه بعد بذل الجهد والسعي، وأن الرزق موجود في أماكن كثيرة لا في مكان واحد كما يظنه البعض.

وبعض الخريجي في زماننا يحسبون أن الرزق يأتي بالعمل الوظيفي والمكتبي فقط ونسوا كثيراً من الأبواب المتاحة للكسب والعمل بل واحتقروا الكثير من الأعمال اليدوية والحرفية وعيروا أصحابها بها، وما علموا أن لكل إنسان عمل ومهنة وصنعة تتناسب معه، وكل ميسر لما خلق له، وأن الرزق لا يمكن حصره في عمل واحد وشكل واحد.

ما خلق الله حياً من الأحياء، إنساناً ولا حيواناً إلا تعهد له برزقه، ولكن من الناس من وضع الله رزقه على المكتب أمامه، يقعد مستريحاً على كرسيه، ويُمسك قلمه بيده، فيجريه على الورق، و منهم من وضع الله رزقه أمام الفرن أو النور، ومن رزقه في مصنع الثلج، هذا -أبداً- عند حرارة النار، وهذا عند برودة الجليد، ومن رزقه مع الأولاد الصغار في المدرسة، أو العُمال الكبار في المصنع، ومن رزقه وسط لُجة البحر فهو يغوص ليستخرجه، أو فوق طبقات الهواء فهو يركب الطيارة ليأتي به، ومن رزقه وسط الصخر الصلد، فهو يکسره ليستخرجه، ومن رزقه في باطن الأرض فهو يهبط إلى المنجم ليصل إليه.

كما تكلم الشيخ حفظه الله عن أمر يقع فيه الناس ألا وهو التحسر على ما فات والنظر إلى من هو أعلى منا في الرزق، وكم أوقع هذا الفعل من حسد وتباغض وحقد في القلوب، وتسخط على رزق الله وعطاءه، وقد ذكر الشيخ ذلك في هذا الكتاب بقوله: “إنا جميعاً في سباق، فما منا إلا من يجد أمامه من سبقه، ووراءه من تخلف عنه، كُل امرئ منا سابق ومسبوق، فإن كان من رفاق مدرستك، وأصدقاء صباك، من كان مثلك فصار فوقك، فلا تيأس على نفسك ولا تبك حظك فإن منهم من صرت أنت فوقه، فلماذا تنظر إلى الأول، ولا تنظر إلى الثاني؟ إن الله هو الذي قسم الأرزاق، وكتب لكل نفس رزقها وأجلها، ولكنه ما قال لنا اقعدوا حتى يأتي الرزق إليكم، بل قال لنا امشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه، أي اعملوا فإن السماء -كما قال عمر العبقري – لا تُمطر ذهبا ولا فضة، ولكن الله يرزق الناس بعضهم من بعض. لقد أقسم ربنا في كتابه بكثير من مخلوقاته، أقسم بالشمس وضحاها، وأقسم بالليل، وبالفجر فلما ذكر الرزق أقسم بذاته جل جلاله فقال: {{ وفي السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون }} [الذاریات: ۲۲، ۲۳]

ولا يعني الكلام عن الرزق أن الإنسان يقبل وضعه الحالي ولا يسع إلى التحسين أو ليكون من أرباب الأموال والتجارات كلا، بل المقصود هو السعي وبذل الجهد والرضى بالنتيجة التي سيحصل عليها الإنسان بعد ذلك، وذكر الشيخ علي الطنطاوي نصيحة مهمة حول ذلك فقال: “فإن كنت تاجراً فاعمل دائماً على توسيع تجارتك، وعلى تكثير بضاعتك، وعلى زيادة دخلك ، ولكن لا تغش ولا تسرق ولا تحتكر ، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ثم ارض بما قسم الله لك، فلا تأس على ما فاتك أسى يملأ نفسك حزناً واكتئاباً ولا ما آتاك فرحاً يطغيك ويُخرجك عما يرضيه عنك.
وإن كنت موظفاً فاعمل على أن ترتفع درجتك، وأن يزيد مُرتبك، لكن لا تسلك غير طريق الحق، ولا تُضع كرامتك، ولا تُخالف شرع ربك.
وإن اعترضتك العقبات فاعمل على تخطي العقبات، وإن عرضت لك الشدائد، فلا تقلل عزيمتك الشدائد، فرُب شدة أعقبها فرج، وضيق جاءت بعده السعة : {{ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً }} [النساء: ۱۹].”

كتاب صغير بحجمه ولكن كبير بمعانيه ونافع بما يحتويه.

ولن يأخذ منك إلا دقائق معدودة لقراءته وستجد الكثير من الأمور قد اختلفت معك إذا وعيت ما ذُكر فيه.

وفي الختام أستودعكم الله، ونراكم في مقال جديد وكتاب نافع ومفيد بإذن الله..