منذ أن فتحت عيني عليّ هذه الدنيا وأنا شغوف باللغة العربية وتعلمها والقراءة في فنونها.
فقد كانت جدتي حريصة كل الحرص على تعليمي وتوفير الكتب المتنوعة والتي تتناسب مع عمري وفهمي، وتجلس معي بالساعات تحكي لي القصص والحكايات المشوقة من حتى صرت عاشقاً لهذه اللغة ومحباً لها منذ الصغر.
وهكذا دخلت المدرسة وأنا بحمد الله متقن للقراءة والكتابة ولي حصيلة لغوية لا بأس بها، ولم أترك فعالية ولا مسابقة في اللغة العربية إلا وشاركت فيها طوال مسيرتي الدراسية، وقد حصّلت بفضل من الله عدداً كبيراً من شهادات التكريم والدروع في مسابقات الخطابة وإلقاء الشعر والقصة القصيرة وغيرها.
ولا أخفي أني كنت دائماً من الأوائل، فالقراءة ساعدتني على تعلم الكثير مما كنت أدرسه، ولم تشكل عليّ معلومة إلا وبحثت عنها وقرأت فيها حتى أستوعبها وأفهمها كلها.
حتى جاءت السنة الدراسية الأخيرة من الدراسة وبدأت الحوارات تكثر في بيتنا عن المستقبل والتخصص الذي ينبغي عليّ التوجه إليه، فقد كنت مولعاً بالعربية وعازماً على التخصص فيها حتى أصل لأعلى شهادة أكاديمية إلا أن والديّ وإخوتي اعترضوا على ذلك وهاجموني بشكل غير متوقع.
فكيف يتجه طالب من الطلبة الأوائل لتخصص مثل اللغة العربية ويترك تخصصات الطب والهندسة وفروعها؟
وماذا سيقول الناس عنّا إذا عرفوا أنك قد دخلت هذا التخصص وتركت غيرها من المجالات التي يتمناها كل الطلبة؟
وحاولت اقناعهما في رغبتي واختياري فلم أُفلح، ولم أجد من يقف معيّ في محنتي التي امتدت لشهور طويلة، ولم أجد فيها من يستمع إليّ أو يقف بجواري، فقد رحلت جدتي منذ سنوات وليتها كانت معي وهي التي علمتني وغرست حب اللغة العربية في فؤادي.
وظهرت النتيجة في آخر السنة وكان ترتيبي الثاني على مدرستي، وفرح كل من حولي إلا أنا فقد شعرت أن ذلك قد يكون السبب في شقائي، وقد كان للأسف فقد رتب أبي أوراق ابتعاثي لإحدى الدول المجاورة في تخصص الهندسة الميكانيكية، واحتفل الجميع بذلك وأنا أتأمل المشهد من بعيد وأتساءل: على ماذا يفرحون والذي أقيمت الحفلة من أجله تعيس ومهموم؟
وسافر معي أبي ليرتب أموري قبل بدء الدراسة، وكلما كلمته في الأمر وفي الاختيار يقول لي إنه قد اتخذ هذا القرار لأجلي وأني سأشكره على ذلك يوماً ما..
وبدأت الدراسة وأنا لا أنام الليل ولا أستيقظ النهار إلا متعباً من كثرة التفكير، وأسير متثاقل الخطى للجامعة، وقلت لنفسي يوماً: لأجرب هذا التخصص فلعل فيه ما يعوضني عن جمال اللغة العربية واجد الرغبة لدراسته كما قيل لي.
ومضت الأيام تلو الأسابيع بطيئة ولا أزداد إلا كراهية لهذا التخصص، وتيقناً أن هذا التخصص ليس لي، فكيف أبدع في تخصص لا أملك الرغبة ولا الدافع لدراسته؟
وصرت أكره التخصص أكثر وأكثر وأجد نفسي مرغماً على المذاكرة للاختبارات وحل الواجبات فكيف يكون في هذا مستقبلي؟
وكيف سأنفع المجتمع من خلاله وأنا أجد النداء يهتف بداخلي بأن العربية هي مساري وتخصصي وشغفي ومجالي الي سأنفع فيه بإذن الله لا هذا التخصص!!
وهل ستحب النفس طعاماً تكرهه إذا أجبرت عليه لأيام وأسابيع وحُرمت مما تحب وتستلذ به من الأطعمة؟
صحيح أني أحرزت أعلى الدرجات في جميع المواد بالمدرسة، ولكن الجامعة تختلف، والتعمق بالمواد وطبيعة الاختبارات يختلف وحتى اللغة التي درست فيها تختلف.
حيرتي مستمرة ومعاناتي متصلة ولا اعلم كيف سأنتهي من هذه السنوات الخمس وهل سيكون لي فرصة لدراسة العربية والرجوع إليها يوماً ما؟
ففي كل تخصص ومجال يبرز مالا يزيد عن 5% من البشر فيه وكنت أطمح أن أكون من البارزين في تخصص اللغة العربية، ولا أرى أن هذا الأمر ممكناً في الهندسة ولا في غيره حتى لو بذلت وسعي وجهي.
وكم هم المهندسين والأطباء المغمورين ممن لا صوت لهم ولا أثر بالمجتمع، وكم نسبة العاطلين منهم عن العمل الباحثين عن أي فرصة لذلك.
ويا ليت أبي قد استمع إليّ ولم يُجبرني على ما أكره.
أعلم أنك إنك حريص على مستقبلي، ولكني ارجوا أن تستمع إليّ وتتأمل في اختياري.
ولا أشك يوماً أنك تبحث عن سعادتي، والتي سأصل إليها بدراسة ما أحب ولدي الدافع للنبوغ والتميز فيه.
لا يهم مدح وآرائهم الناس يا أبي إن كانت المُحصلة أن يقع ابنك في معاناة وهموم متتالية.
وأنا أعلم أنك لا تريد لي إلا الخير فهل ستستمع إليّ يا أبي؟
(قصــة مستوحــــــــاة من أحــداث واقـعية)
قصة مؤثرة قرأتها حتى النهاية، وكنت أظن أن التخصص الذي اختاره والده قد أعجبه في الأخير، لكن للأسف، لقد انتابني القلق وسألت نفسي ماذا لو حصل هذا مع أولادي فكيف سيكون الحال ..
بالمناسبة رحم الله الجدة وجعل ذلك في ميزان حسناتها فقد كانت تعرف قيمة اللغة العربية وأنها لغة القرآن.